المعلّم القديم

   أخبرني جاري ذو اللّحية البيضاء قال:

   لم يكن في ضيعتنا أحد يعرف القراءة ليعلّمنا، لهذا كان معلّمنا ونحن صغار غريبًا يقطن ضيعة يفصلها عنّا وادٍ عميق، وتبعد ساعتين مشيًا على القدمين، يأتي إلينا صباح الإثنين وينصرف ظهر السبت من كلّ أسبوع. يحمل زوّادته في سرّة يعلّقها بعصا يضعها على كتفه. وفي أثناء الطريق يختار أحسن القضبان يقصّها من شجيرات الريحان والدّفلى، ويجعل منها رزمةً يضمّها إلى حمله، وعند وصوله يضعها في زاوية البيت الذي نتعلّم فيه، وكانت تختلف في القياس: منها الطويل ومنها القصير ومنها ما هو بين الإثنين يستعملها وفقاً للحاجة والظرف. لأنّه كان يقعد على طرّاحةٍ مبسوطةٍ على حصير ويسند ظهره إلى الحيط. ولمّا يحتاج إلى التأدييب يتناول القضيب القصير يؤدّب به القريب، ويأخذ المتوسّط للبعيد والطويل للأبعد حتّى لا يكلّف نفسه مشقّة القيام والقعود.

   وكنت مع سائر التلاميذ نقعد أمامه صفوفًا بشكل أقواس. أصغرنا قدّام وأكبرنا خلف بحيث لا يختفي عن ناظريه، المختبئين وراء نظّارتيه، أحدٌ منّا. وكان يلبس سروالًا أسود يصل إلى بطّتي رجليه ويتدلّى بحره إلى قرب الأرض ويشدّ وسطه بزنّار نبيذيّ اللون غامق ويغطّي رأسه طربوش مغربيّ ذو لفّة سوداء وسُرّابة تهبط حتّى رقبته.

   وأمّا نحن فكنّا نلبس سراويل وقنابيز تشدّها زنانير من جلد أو أكمار، وتعلو رؤوسنا قبّعات من لبّاد.

   نرتجف عندما يطلّ علينا معلّمنا، لا أحد يجرؤ أن ينبس ببنت شفة أو يبدر منه حركة ذات معنى خاصّ، خوفًا من تلك القضبان اللّينة المؤلمة. نتجمّع كلّنا صغارًا وكبارًا في غرفةٍ واحدة وفصلٍ واحد نردّد ما يقوله لنا دون أن نفقه ما يقول:

أَلِفْ     هَمزه       قَطْعَهْ        نَصْبِيَّهْ      أبّز

مَبْ   جَنْصُبْ     جَ      أَدِّزْ     مَدْ       أَبْجَدْ

   وبعد أن تلقّنّا الأبجديّة بهذا الأسلوب الصوتيّ أخذ يكسر لنا مثلًا على ألواح خشبيّة سوداء نتعلّمها استظهارًا دون فهم. وكان حضرته يتغيّب عند هطول المطر الغزير حتّى لا تجرفه السيول، وفي موسم الزيتون وزرع الخضار وفي غير ذلك من الفرص؛ كان واسع الاطّلاع والخبرة لا يجاريه أحد من لدانه، يعالج المرضى ويصف لهم الوصفات المتنوّعة، يحجمهم ويفصدهم بموس الحلاقة ويقصّ الشعر لذوات قريتنا ويحلق ذقونهم ويكتب الحجابات والحروز الحارسة من العين للمتطيّرين والمتطيّرات، ويرقي الأطفال لتشفى من الأذى؛ ولكلّ هذا كانوا يحترمونه ويتهيّبونه ويستشيرونه في شؤونهم الخاصّة ويدعونه إلى منازلهم ويكرّمونه كأنّه واحد منهم ويثقون به ثقة عمياء لسوء حظنا، إذ إنّهم ما عادوا يصغون إلى شكاوينا، عندما ينال أحدنا الضرب والفلق والركوع أو تشدّ شحمة أذنه شدًّا قويًّا بين حصاتين خشنتين.

    هكذا مضَّيتُ سنة بشقّ النفس وصبر جميل، استطعت في منتهاها أن أكتب اسمي وأميّز الألف والباء وأجمع الأعداد إلى المائه. 

                                            يوسف س. نويهض

                                             14 /12/1954